"تأمل النعم التي تمتلكها الآن والتي يمتلك كل إنسان الكثير منها، ولا تفكر في أحزانك الماضية والتي لدى كل منا القليل منها".
هذه الكلمات جاءت على لسان أعظم قصاص بريطاني وثاني رجل بين كتاب بريطانيا بعد شكسبير وهو الأديب الذي ترك ثروة أدبية وروائية خالدة علي مر الزمان ، إنه تشارلز ديكنز الذي اتخذ من حياة البؤساء والفقراء والمهمشين عالم خصب لقلمه ، نسج أروع الإبداعات الروائية التي تتحدث عن ضرورة تحسين النظام الصحي العام، وتربية الجماهير الفقيرة، ومحو الأمية، إنه الظاهرة الخارقة كما تصفه الروائية الأمريكية جين سميلي.
الأديب الإنجليزي الذي تطالعنا في هذا الشهر ذكرى ميلاده عام 1812 كان يعرف بغرابة أطواره حيث عرف بقوة ملاحظته وسرعة غضبه، وتشدده في تربية أولاده "وكان لديه منهم عشرة"، فكان يقيم البيت ويقعده ويملؤه صياحاً وتهديداً إذا ما وقع نظره على قطعة من الفرش في غير موضعها، أو أتت إحدى بناته أمراً، أو أهملت شأناً من الشئون المنزلية وإن كان طفيفاً.
و من أبرز الدلائل على غرابة أطواره أنه كان يغادر منزله وسط الظلام، ويتوه في شوارع لندن قاطعاً 15 أو 20 ميلاً في الليلة الواحدة دون أن يكون له أي مأرب من هذه النزهة الليلة!.
ففي إحدى المآدب التي أقيمت له في الولايات المتحدة الأمريكية دسّ يده في جيبه وتناول مشطاً راح يمشط به شعره ولحيته وشاربيه، على مرأى من الحاضرين المشدوهين المتقززين.
ولد ديكنز وترعرع في عائلة كبيرة وفقيرة فكان الابن الثاني من بين ثمانية إخوة .. كان والد تشارلز ديكنز كاتب حسابات أما جده وجدته لأبيه فكانا خادمين ، أحب والده العظمة والوجاهة وقد كان مسرفا وأحواله المادية صعبة وقد أدى ذلك إلي عذاب الابن في صغره ولكن هذا العذاب هو الذي خلق منه العبقري الذي خلده التاريخ وكان سببا في أن يصبح كاتبا كبيرا.
رقي والده وأصبح موظفا في الميناء الحكومي وقد كان في منزل الأسرة خادمتان وكانت احداهما وتدعى "ماري" تقص علي تشارلز قصصا مرعبة تجعله يعاني من الكوابيس ، وكان والده يجعله يقف فوق مائدة المطبخ ليغني الأغاني الضاحكة للضيوف.
في سن السابعة حتى العاشرة كان تشارلز يقرأ القصص بنهم كبير فقد كان يختفي في غرفة صغيرة ويقرأ قصص "دون كيشوت" وروبنسون كروزو وغيرها وكانت جولاته في شوارع لندن المدرسة الحقيقية التي تخرج منها ليصبح كاتبا عبقريا.
ساءت الأمور وكثرت الديون علي آل ديكنز وبيع الأثاث وجاء الدور على كتب تشارلز وقصصه مما جعله يحس بتعاسة ما بعدها تعاسة وأرسله أبواه ليعمل في مصنع للأدهنة السوداء مما أثر في نفسه تأثيرا لم ينمح بمرور السنين ويقول عن هذه الفترة: "لقد تأثرت طبيعتي كلها من الحزن ، والتحقير الذين لحقاني نتيجة للأحداث التي مرت بي حتى أنني الآن وأنا شهير وسعيد أنسى أحيانا في أحلامي ، أنني رجل ولي زوجة وأطفال وأعود بخيالي إلي تلك الأيام البائسة من حياتي".
ديكنز كان سيصير متشردا
لقد أصيب هو وعائلته بكارثة إذ قبض رجال الشرطة على والده لعدم قدرته على سداد ديونه وأرسل إلى السجن المخصص للمدينين العاجزين عن السداد. أمضى ديكنز الأب 3 أشهر في السجن ويصف تشارلز حالته في هذه الفترة "كنت أعلم أنني أتجول في الشوارع وأنا جائع وأنه لولا رحمة الله لأصبحت لصا أو متشردا صغيرا".
في سن الخامسة عشرة بدأ العمل صبيا في مكتب أحد المحامين وعمل بعد ذلك في احدي المحاكم وقد ساعده ذلك في إتقان النواحي القانونية في قصصه ، و في نفس الوقت كان يعمل مراسلا ً لأحدى الجرائد المحلية الصغيرة لقاء اجر متواضع أيضا ً، و لكنه لما يهتم بالأجر فلقد تفانى في هذا العمل الصحفي الذي كان بمثابة أولى خطواته لتحقيق أحلامه فقد كان بمثابة تمرين له على حرفة الأدب، و لقد أتاح له هذا العمل الصحفي أن يتأمل أحوال الناس على مختلف مستوياتهم الاجتماعية و الأخلاقية فخرج بالعديد من التجارب الإنسانية و الأخلاقية التي وسعت آفاقه و مداركه الأدبية و الحياتية، كما أغرم فن التمثيل فكان يكثر من الذهاب إلى المسارح وقاعات الموسيقى.
نصفه الآخر
ديكنز
أحب ديكنز وهو في الثامنة عشرة من العمر ولكنها هجرته بعدما وعدته بالزواج لمعارضة اهلها ولقد تزوج من كاترين هوجارت ولم يكن الزواج عن حب ولكنه أثمر عشرة أطفال في خلال 15 سنة.
وكشفت رسائل الروائي الانجليزي تشارلز ديكنز التي حررها ونشرها جراهام ستوري عن قصة الحب التي خاضها ديكنز في المراحل الاخيرة من حياته، والتي تسببت في انفصاله عن زوجته كاثرين، وهي قصة حبه العنيف للممثلة الشابة نيللي تيرنان التي لم تجلب له السعادة بل جلبت له القلق والانزعاج بعد ان اصبحت حياته الشخصية نهباً لفضول الاخرين على اثر نشر رسائل خاصة به وبحبه الاخير جعله يفقد الثقة في الرسائل كوسيلة تواصل بين الاصدقاء والأحبة.
أثناء قيام صديقه فورستر بكتابة سيرته الذاتية، طلب منه ديكنز ان يكون اكثر تعاطفاً معه في كتابه، وان يلقي الضوء على حرمانه العاطفي في طفولته والذي كان السبب في عدم اغداقه بمشاعره على الآخرين وفي التعاسة التي لازمته طوال حياته والتي كانت وراء محاولته اغراء الممثلة الشابة الصغيرة نيللي بالمال حتى تبادله حباً بحب.
قال عنها:
- القانون مغفل اذا كان يظن أنه يرغم المرأة على عمل شئ لا تريده
- المرأة أساس المدنية والحضارة والعمران وإن لم يعترف بذلك الرجال، ولذلك دع الرجل يقول ما يشاء ولتفعل المرأة ما تشاء.
- بعض الرجال يحبون المال، وبعضهم يحبون المجد، أما النساء فهن عند الرجال أغلى من المجد، وأثمن من المال.
- المراة الجميلة تطرب لشروق الشمس
حياته الأدبية
تقول جين سميلي مؤلفة كتاب "قصة حياة تشارلز ديكنز" أنه بدأ يلمع ادبياً عام 1835 اي وهو في الثالثة والعشرين من العمر فقد نشر عندئذ روايتين بعنوان "بدايات بوز" و"مغامرات السيد بيكويك". وبما انه كان يحب المسرح كثيراً فإنه تعود على قراءة نصوصه علنياً امام الجمهور وظل مواظباً على هذه العادة حتى موته.
ولم تكن الحياة العامة لتشارلز ديكنز بأقل أهمية من إبداعه الروائي أو الأدبي فقد كان ناشراً، وداعماً للفكرة الديمقراطية، ومنظراً للرأسمالية والحداثة، وحريصاً على المصلحة العامة، كما دافع عن الطبقات الشعبية الفقيرة والأشخاص المهمشين والشخصيات الفردية الشاذة عن الخط العام.
وتضيف: لرواياته الواقعية جداً أهمية تاريخية بالإضافة إلى أهميتها الفنية ومن يريد أن يطلع على الحياة الإنجليزية في القرن التاسع عشر فليقرأ روايات تشارلز ديكنز.
في عام 1836 حيث كان عمره أربعا وعشرين سنة فقط نشر كتابه الأول بعنوان "حكايات بوز" او "اسكيتشات بوز" وذلك في جزئين وهي عبارة عن حكايات او وقائع حصلت لبوز في حياته اليومية والواقع ان بوز ليس الا الاسم المقنع لتشارلز ديكنز نفسه وقد أسعدت هذه الحكايات الجمهور المثقف كثيراً. وكانت تنشر في الصحف على حلقات.
وعندما وجد لأول مرة اسمه مطبوعاً في الجرائد كاد ان يجن من الفرح. واخذ ينشر بعدئذ مغامرات بيكويك التي اعجبت كل انجلترا وكانت السبب في شهرته.
إبداعات لا تزال حية بيننا
عرف ديكنز عندئذ بضع سنوات شديدة الخصوبة من حيث الكتابة والابداع وراحت حياته العائلية تستقر. فتوالت رواياته حيث نشر روايته " أوليفر تويست" ،"حياة ومغامرات نيقولا نيكلبي"، "دافيد كوبرفيلد" وراح ديكنز عندئذ ينخرط في الصحافة السياسية، والكتابات المسرحية، وكتب الرحلات وحكايات الميلاد للأطفال، ورحلة بين أبطال أعماله الرائدة
ترنيمة عيد الميلاد
الغلاف
تعد الشخصيات الرئيسية في قصة " ترنيمة عيد الميلاد " ابن عزير سكروج, وعائلة كراتشيت وتاينى تيم وشبح مارلى وأرواح عيد الميلاد الثلاث. والقصة تصور بطريقة مسرحية تحول ابن عزير من عجوز متذمر شحيح الى شخص كريم دافئ القلب .
ودخلت كلمة "سكروج" منذ ذلك الحين فى اللغة الإنجليزية كمصطلح يصف البخيل . فسكروج يعتبر عيد الميلاد "هراء", ويرفض أن يعتبره من الأعياد.
وفى أمسية من أمسيات عيد الميلاد يحلم بزيارة شبح شريكه المتوفى جاكوب الذى حذر سكروج بأن يغير من طريقته فى الحياة. وتظهر ثلاث أرواح تمثل عيد الميلاد الماضى والحاضر والمستقبل, ويقدمون له سلسلة من الرؤى التى تجعل سكروج يدرك أن وجوده كئيب وشحيح, وكيف أنه جعل حياته بائسة جدا.
وكانت هذه القصة هى القصة الأولى فى سلسلة حكايات أعياد الميلاد التى نشرها ديكنز فيما بين عامى 1843 – 1848 , يليها : رنين الأجراس, والحظ الطيب, ومعركة الحياة, والرجل الممسوس .
قصة مدينتين
قصة مدينتين
في عام 1859 نشر ديكنز "قصة مدينتين" اي قصة باريس ولندن وقد اعترف فيما بعد بأنه كتبها تحت تأثير الفيلسوف الانجليزي توماس كارلايل ويبدو ان كلتا المدينتين كانتا عزيزتين على قلب ديكنز ولكن معرفته بهما لم تكن متساوية فلندن اقرب اليه بكثير يضاف الى ذلك انه كان يخشى الثورة الفرنسية واعمال العنف التي حدثت في مرحلتها الثانية ولذلك فإن روايته كانت تهدف ضمنياً الى تحذير الانجليز من القيام بثورة كهذه.
يفتتح ديكنز "قصة مدينتين" بعبارة من أشهر عباراته على الإطلاق هي "كان ذلك الزمن أفضل الأزمنة، وكان أسوأها" حيث يروي قصة تدور أحداثها في مدينتين هما لندن وباريس. في لندن نتعرف على لوسي مانيت، إبنة الطبيب الفرنسي ألكساندر مانيت، الذي كانت تحسبه ميتاً، ثم تفاجأ بأنه كان مسجونا في الباستيل، ولا تعلم بوجوده إلا بعد إطلاق سراحه، واجتماعه بها في لندن.
هنا يصور ديكنز شخصية الأب الذي أنهكته سنوات السجن الطويلة، حيث كان يعمل صانع أحذية خلال تلك الفترة، وهو يخرج أدواته بين الحين والآخر ويعود إلى تلك المهنة، كأنه ينسى واقعه الجديد. يتم استدعاء الأب وابنته للشهادة في قضية خيانة يتهم فيها تشارلز دارني، وهو شاب فرنسي لطيف تعجب به لوسي، ويبرأ من تهمته على يد محام شاب يشبهه إلى حد مذهل اسمه سيدني كارتن.
يبوح كارتن للوسي بحبه رغم علمه بأنه غير جدير بها، ويتمنى لها حياة سعيدة مع من تحب، ويعدها أن يقدم لها يوماً ما يثبت جدارته بحبها.
في باريس، يسجل ديكنز أحد مشاهده الأكثر تأثيرا في الذاكرة على الإطلاق، حيث يسقط في الشارع برميل خمر من عربة تحمله، وينكسر في الشارع، ويتدافع الناس لشربه قبل أن تمتصه الأرض، وفي هذه الأثناء يغمس أحدهم يده في الوحل النبيذي ويكتب على الحائط كلمة "دماء"، كأنه يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور في فرنسا.
في القصة الكثير من التفاصيل المدهشة، والشخصيات المرسومة بدقة، وهي ذات حبكة مثيرة مليئة بالمفاجآت، يطرح ديكنز في قصته - بحسب النقاد - أهمية التضحية، حيث يضحي الثوار بكل غال وثمين في سبيل الحرية التي يدركون صعوبتها، والثمن الضخم الذي سيدفعونه من دمائهم من أجلها.
كما يرى ديكنز أن الثورة تميل حتماً إلى القمع والعنف، فهو رغم دعمه للقضية التي استوجبت الثورة إلا أنه يشير إلى ما يرتكبه الثوار من شرور.
من الرواية نقرأ :
" باريس .. حيث داست عجلات العربة الفخمة ..التى كانت يستقلها الماركيز ايفرموند .. على طفل صغير فقتلته .. لقد كانت العربة منطلقة بأقصى سرعة فى شوارع باريس ..وحواريها الضيقة المملؤه بالرجال والنساء والاطفال .. من ابناء الشعب الفرنسى الفقير البائس .. الذين يبدون جميعا كالعبيد امام النبلاء فى فرنسا ..
توقفت عربة الماركيز ايفرموند قليلا .. بعد ان مات الطفل المسكين .. الذى حمله ابوه بين يديه وهو يبكى بكاءا مرا .. لم يهتم له الماركيز الذى اخرج كيس نقوده .. والقى بقطعة ذهبية على الارض كتعويض عن مقتل الطفل المسكين .. وانطلقت العربة بعد ذلك خارجة من باريس.. واتجهت الى الريف حيث وصلت الى المنظقة التى يقع فيها قصر الماركيز .. ايفرموند .. مارة بقرية صغيرة .. يعيش فيها عدد قليل من البؤساء الذين يعانون من دفع الضرائب الفادحة .. التى تفرضها عليهم الدولة والكنيسة .. وكان احد هؤلاء البؤساء هو عامل اصلاح الطرق .. الذى شاهد رجلا غريبا كان متعلقا بسلسلة اسفل عربة الماركيز .. واخبر الماركيز بذلك .. وطلب الماركيز ايفرموند من وكيله مسيو جابيل .. ان يحاول القبض على هذا الرجل ..
واخيرا دخل الماركيز الى قصره .. وقال للخدم انه يتوقع وصول ابن اخيه من لندن الى القصر .. وعرف من الخدم انه لم يصل بعد
وبينما كان الماركيز يتناول طعام عشائه .. وصلابن اخيه .. لقد كان هو نفس الشخص الذى يعيش فى لندن باسم تشارلس دارنى .. بينما اسمه الحقيقى هو تشارلس سانت ايفرموند .. وهو نبيل ينتمى الى تلك العائلة الفرنسية .. التى يرأسها الماركيز .. وكان من الواضح ان الماركيز .. وابن اخيه الذى ترك كل امواله .. واملاكه فى فرنسا كانا على غير وفاق.. وكان الشاب دارنى رافضا تماما تلك الغطرسة التى يتمتع بها نبلاء فرنسا .. فترك فرنسا وعمل فى انجلترا كمدرس للغة الفرنسية "
وفي النهاية نقرأ :
" وفى يوم ما قال المستر لورى ..ان الاحوال قد ساءت جدا فى فرنسا .. وان معظم الملاك والنبلاء الفرنسيين . اخذوا يحولون اموالهم الى انجلترا .. هربا من حالة الغليان التى اصبحت موشكة على الانفجار ..
بل لقد حدث الانفجار بالفعل فى حى سانت انطوان .. وخرج الشعب مسلحا بكل ما وصلت اليه ايادى الناس.. من كل انواع السلاح .. واندفعوا تحت قيادة المسيو ديفارج صوب سجن الباستيل.. وهاجموه واشعلوا فيه النيران واطلقوا سراح المسجونين .. وقبضوا على جميع ضباط السجن وقتلوا مديره .. وطلب المسيو ديفارج من احد الضباط الاسرى .. ان يريه الزنزانة مائة وخمسة البرج الشمالى .. وهى الزنزانة التى كان الدكتور مانيت مسجونا فيها .. وقام هو ورفاقه بتفتيش الزنزانة .. واحرقوا محتوياتها ثم خرجوا الى حيث انطلق الشعب بادئا الثورة الفرنسية .. واخذوا يحطمون كل شيىء بلا رحمة ولا شفقة ..
وانتقلت اخبار الثورة من باريس الى المدن الفرنسية الصغيرة .. حيث اشتعلت الثورة فى كل مكان .. وفى القرية التى يقع فيها قصر الماركيز ايفرموند .. تجمع الشعب واشعل النار فى القصر .. وخصوصا المسيو جابيل الذى كان يعمل وكيلا ومحصلا للضرائب لصالح عائلة الماركيز .. والذى استطاع ان ينجو من الموت والشنق بأعجوبة "
الأزمنة الصعبة
أوقات عصيبة
يدعو دكينز في هذه الرواية إلى تحسين وضع العمال المزري، ويذكر كتاب سيرة تشارلز ديكنز انه في عام 1854 حدث إضراب في مدينة بريستون الصناعية بشمال انجلترا، فقطع ديكنز، بفضوله النهم المعروف، كل الطريق من لندن الى هناك ليرى ما الذي كان يجري وفي وقت لاحق كتب هذه الرواية وسمى المدينة كوكتاون كانت مدينة مداخن طويلة تنتشر منها أعمدة دخان لا متناهية بخطوط افعوانية, كانت فيها قناة قذرة، ونهر يجري ماؤه بلون ارجواني، وبرائحة تبعث على الغثيان، واكوام هائلة من البنايات المليئة بالنوافذ حيث الضوضاء والقعقعة طيلة اليوم، وحيث مكبس الآلة البخارية يصعد ويهبط بحركة روتينية مثل رأس فيل في حالة كآبة وجنون .
وربما تكون هذه القطعة هي الأكثر شهرة في الأدب الإنجليزي حول تأثيرات الثورة الصناعية وتشويهها الإنسان.
ومن الرواية نقرأ في بدايتها: في مدينة كوكتاون بانجلترا، وفي حجرة الدرس وهي حجرة مربعة الشكل قبيحة المنظر نجلس عشرون من التلاميذ والتلميذات صامتين يستمعون للسيد "جراد جرايند" وهو يحدث معلمهم قائلا
- أريد حقائق مادية علم هؤلاء الأولاد والبنات الحقائق العلمية فقط ياسيدي لقد ربيت أولادي علي الحقائق وأريدك أن تربي هؤلاء الأطفال علي الحقائق فلا شئ انفع لهم من الحقائق..
هكذا كان يتحدث السيد "جراد جريند" رجل الأعمال المعروف ومالك هذه المدرسة الصغيرة بينما وقف إلي جانبه شاب أنيق مهذب، لم يكن حتى هذه اللحظة قد شارك في الحديث.
وكان السيد "جراد جرايند" قد بنى تلك المدرسة وجعلها أشبه ما تكون بتكوينه الجسماني..مربعة الشكل!! فقد كان هو مربع الجسم له رأس أصلع مربع الشكل وأصابع غليظة مربعة الشكل أيضا أما عيناه فكانتا أشبه ببئرين مربعي الشكل مظلمين حفرا في مقدمة رأسه الأصلع الذي فقد معظم شعره وبدا هذا الرأس الأصفر وكأنه على وشك الإنفجار ربما من شدة ازدحامه بالحقائق!!
والسيد "توماس جراد جرايند" وهذا اسمه كاملا لا يعترف بشئ في الحياة لا يندرج تحت الحقائق المادية فأي شئ لا يخضع للإحصاء العددي أو للقياس الحجمي أو الكمي ليسي له وجود في رأي السيد "جراد جريند" وبالتالي..هو يرفض أن يفسح له مكانا في رأسه.
وبينما ظل الأولاد والبنات على صمتهم استأنف السيد "جراد جريند" حديثه:
إننا لا نحتاج في حياتنا هذه إلا إلى الحقائق..البنت رقم 20 قفي؟ إنني لا أعرف هذه البنت..من تكون؟
كانت البنت رقم 20 بنتا جميلة لها عينان سودواوان جميتان وشعر أسود فاحم وعندما أشار إليها السيد جراد جريند وأمرها بالوقوف وقفت وقد اكتسى وجهها بحمرة شديدة وانحنت تحية واحتراما وأجابت على سؤال السيد جراد جريند قائلة:
اسمي سيسي جوب ياسيدي!
فقال: أن "سيسي" هذا ليس اسما.لابد أن اسمك هو سيسيليا.
فقالت البنت وهي لا تزال على انحناءها محمرة الوجه
ان أبي يناديني "سيسي" ياسيدي.
فقال لها السيد جراد جرايند في حزم قاطع:
إذن فهو مخطئ.قولي له أنه يجب عليه ألا يناديك بهذا الاسم ثانية..فاسمك هو "سيسيليا جوب".
أوليفر تويست
أوليفر تويست
تعد قصة أوليفر تويست نموذج فريد من فن تشارلز ديكنز الروائي، كتب تشارلز هذه القصة عام 1838م، وهي تعد من روائع الأدب العالمي،إنها قصة كلاسيكية: ترجمت إلى جميع لغات العالم، وتحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني، ولا تزال تدرس في المدارس حتى اليوم.
وتدور القصة حول طفل يسمى أوليفر تويست، ولد في ملجأ للفقراء، حيث انتشرت هذه الملاجئ في إنجلترا في تلك الأيام بموجب قانون "إسعاف الفقراء الجديد" الذي صدر عام 1834م، وكان هذا القانون موضع انتقاد وشجب بالغ، كما كانت هذه الملاجئ مثالاً للقسوة والإهمال والفساد الإداري والاستغلال الخادع للدين، حيث كانت تُدار من قِبَلِ رجال لهم ارتباط بالكنيسة.
ولد أوليفر من أم مجهولة لجأت إلى الملجأ وماتت بعد الولادة مباشرة، لتبدأ رحلة عذاب أوليفر في هذا المكان الذي لم يكن الأولاد الصغار يجدون فيه ما يسد جوعهم ولا ما يلبي حاجاتهم العاطفية.
ولأن أوليفر بعد أن جاوز سن العاشرة طلب مرة مزيداً من الحساء الذي لا يختلف في تركيزه عن الماء كثيراً، والذي هو الطعام الرئيس والدائم في الملجأ، فقد اعتبر هذا التصرف جريمة منكرة، سُجن بسببها أوليفر وطُرد من الملجأ، وأُلحق بتدبير من إدارة الملجأ بدفان المنطقة ليتعلم فن صناعة التوابيت ودفن الموتى والنواح في الجنائز.
ولسوء المعاملة عند الدفان ومضايقة الخادم وولد آخر ـ كان يعمل مع الدفان ـ ومعايرتهم الدائمة له بأنه ابن الملجأ وأنه لا يعرف لنفسه نسباً؛ فر أوليفر ماشياً إلى لندن يحدوه الأمل في أن يحصل على عمل شريف يقتات منه.
ولكن سوء الحظ أوقعه في يد عصابة شريرة تمتهن السرقة والنشل يقودها يهودي عجوز يسمى فاجين، حيث حاول هذا الأخير تعليم أوليفر فن النشل، ولكنه نجا من أيدي العصابة مرة لتختطفه مرة أخرى وينجو منها ثانية بعد أهوال تقشعر لها الأبدان، ليقع في أيد أمينة وتسير الأمور به نحو معرفة هويته عبر عدد من المفاجآت، وتنتهي القصة بالقضاء على العصابة وإعدام اليهودي شنقاً، واستقرار حالة الولد أوليفر تويست بعد سنوات من العذاب.
وقد ذكر ديكنز اليهود في هذه الرواية ووصفهم بأبشع الصفات حيث قال في روايته عن فاجين اليهودي "يهودي متغضن الوجه طاعن في السن، كان وجهه المنفِّر الناضح بالشر محجوباً وراء كتلة من الشعر الأحمر المتلبد" .
وفي أحد المواقف أورد الكاتب هذه العبارة "... فإذا بيهودي آخر يلبي النداء يهودي أصغر سناً من فاجين، ولكنه لا يقل عنه دناءة وبشاعة مظهر".
ومن الرواية نقرأ:
كانت مدن إنجلترا وقراها على عهد قصتنا هذه تُزهى بما قام فيها من ملاجئ البر والإحسان، ففي ملجأ من تلك الملاجئ ولد ذات يوم وليد جديد مجهول الأصل وشاء القدر أن تلفظ أمه أنفاسها بعد مولده بدقائق معدودات نفلم يعرف إلي أية طبقة من طبقات المجتمع ينتسب هذا المولود الجديد أهو ابن عظيم من العظماء أم ابن متسول من المتسولين؟ فتبنته إدارة الملجأ نوأطلقت عليه اسم "أوليفر تويست" وعهدت في تنشئته وتربيته إلأي دار من دور رعاية الطفلن ريثما يكبر ويترعرع فتستعيده إليها وتستخدمه في بعض الأعمال. فقد كان من أنظمة تلك الملاجئ الخيرية أن توفر المأوى والغذاء لمن يلتجأ إليها أو تتبناه على أن ينهض بما تفرضه عليه من عمل وخدمة ولن يشذ بطل قصتنا هذه عن ذلك النظامن فسوف يعود بعد سنوات إلي الملجأ الذي ولد فيه ليقوم بالعمل الذي يطلب منه لقاء ما يقتات به من كسيرات الخبر أو فتات الطعام.
هبط "أوليفر تويست" إلى هذه الدنيا وهو يبكي ويصيح ولو عرف في ساعة مولده أنه جاء إلي هذا العالم يتيما فقيرا وأنه سيعيش فيه فريسة العذاب والجوع وعرضة لنهر والضرب يزدريه الناس ويضنون عليه بالعطف والحنان لو عرف في ساعة مولده ذلك كله زاد من بكائه وصياحه.
الآمال الكبيرة
الآمال العظمى
في ظل العطاء والحس الإنساني تنمو آمال "بيب" الكبار وهي الآمال التي قضت عليه الأقدار مكابدة ألوان العذاب في حياته فقد نشأ يتيماً وقاس مرارة اليتم لترمي به ظروفه في سجن لم يرحمه سجانوه، إذ كابد فيه ألوانا من التعذيب.
"وتشارلز ديكنز" في هذه الرائعة يطعم أحداثه بنكهة الأمل والتفاؤل بأنه ما زال في هذه الحياة متسع لآمال كباراً تنمو بفضل آخرين موجودة بداخلهم الإنسانية بأحلى صفاتها، وهم لا شك مازال لهم وجود في هذا العالم.
يقولون ان غاندى عندما قيل له :
" أنت رجل طموح جدآ , مستر غاندى ! ".
قال : I hope not
" بيب" بطل الرواية صبى ماتت أمه, فتولت أخته المتزوجة تربيته ورعايته. ونظرآ لأن سنه صغيرا, فكانت تعامله على انه ابنها, وليس اخوها. وكذلك "جو الحداد" زوج اخته ....الذى كان يحبه اكثر من اى شئ اخر, حتى الدفاع وتلقى الضربات عنه , من زوجته العصبية المزاج دائمآ .
ومن الطبيعى , ان يبدأ "بيب " حياته المهنية كصبى جو الحداد , فالرجل يحبه ويعطف عليه , ناهيك عن تلقى الضربات بدلا منه .... فأين يجد رب عمل افضل من هذا ؟
وحتى هذه اللحظة , كان حلم "جو " الوحيد , ان يكون حدادآ كبيرآ ...
لكن كل شئ سينقلب من أقصى اليمين الى اقصى اليسار, عندما يَدعى ( بيب ) لقضاء يوم فى منزل سيدة عجوز, وحيدة وغنية فى مقابل , لعب واكل ...واموال أيضاً .
هناك رأى لأول مرة "ستلا" , وهناك أيضاً شعر لأول مرة بالنقص . وسرعان ما تمنى , واحس بآماله الكبرى .
لكن , هل سنتقلب آماله الكبرى لتؤذى أقرب الناس اليه ؟
هل ستكون طوق "الحنان والأمان والحب" لكل من عرفه و أحبه ؟
أما تكون لعنة, تصيبه وتصيب كل من يمسه .
يقولون أيضاً : الاحلام قد تصبح كوابيس .....عندما تتجسد .
فهل تصبح الآمال الكبرى كوابيس ؟
ديفيد كوبرفيلد
المجتمع الإنجليزي
تعتبر رواية "ديفيد كوبر فيلد" واحدة من أشهر رواياته, وأجملها حيث يرى بعض الكتاب أنها تقريبآ قصة حياته! . حيث أنه عرف عنه نشئته الفقيرة, واجباره على ترك المدرسة فى سن مبكر. وقد أنعكست هذه النشأة بالطبع, على رواية ديفيد كوبر فيلد.
يقول ديكنز :"من بين كتبي كلها , أحب هذا العمل أكثر من غيره" في هذه القصة يصور فيها حياته الخاصة منذ الطفولة وحتى الشباب والنضج والشهرة إنها عبارة عن سيرة ذاتية وفي هذه الرواية نجد حكاية طفولته البائسة وكيفية اشتغاله كعامل في مصنع ينتج دهان الأحذية والشموع والرائحة الكريهة التي كان يتحملها على مضض وكذلك الاذلال والفقر ثم يتحدث ايضاً عن بداياته الصحفية في البرلمان وقصة حبه الخائب لفتاة جميلة رفضته.
ومن الرواية نقرأ:
كيف كان مولدي ؟؟..اسمي دافيد كوبر فيلد.. وهأنذا اكتب لكم قصه حياتي ولدت في "بلاندرن ستون". وقد مات ابي قبل مولدي بفتره قصيره وفي احدى الأمسيات, كانت أمي جالسه قرب نار المدفأه وكانت حزينه على مصيرها ومصير طفلها اليتيم البائس.
ولمحت امي ميس بيتسي وهي تسير خارج سور الحديقه, وكانت ميس بيتسي تسير متمهله تجاه باب البيت وبدلا من تدق الجرس دست انفها لتنظر الى داخل البيت من خلال النافذه
وميس بيتسي هي عمه ابي, ولذك فكانت تعتبر بالنسبه الي عمتي الكبرى, وكان اسمها الحقيقي ميس بيتسي تروتوود .
وكانت تعيش مع خادم واحد في كوخ متواضع جوار البحر, وكانت قد تزوجت من قبل ولكن زوجها كان رجلا سيئا لذلك فقد طردته
وكانت عمتي على علاقه طيبه مع أبي ولكنها غضبت عليه حين تزوج امي, وكانت عمتي تدعوها دائما ب "اللعبه الغبيه" ولهذا السبب تشاجرت مع ابي ولم تلتق به بعد ذلك مطلقا.
وعندما رات امي ميس بيتسي تطل من خارج النافذه قامت مسرعه وفتحت باب البيت لتستقبلها
ألست انت ميسز كوبر فيلد ....؟
فقالت امي:
نعم .. انا هي... تفضلي بالدخول .
ودخت ميس بيتسي , وجلست السيدتان معا ثم بدات امي في البكاء فاستاءت ميس بيتسي وقالت لامي
- اوه .. اوه .. لا تفعلي ذلك !
ولكن امي استمرت في البكاء وعندئذ وضعت ميس بيتسي يديها برفق حول وجه امي وقالت لها برفق:
- يبدو انك مازلتي طفله صغيره .. يجب ان تتناولي بعض الشاي ... مااسم البنت ..؟!
فقالت امي :
- لا ادري ان كنت حاملا في ذكر ام انثى ..
- اقصد البنت الخادمه التي تعمل عندك عندك...
آه .. خادمتي ..؟ اسمها بيجوتي .
فقامت ميس بيتسي باستدعاء الخادمه , وطلبت منها احضار بعض الشاي , ثم التفتت الى امي وقالت لها :
_ نعود للحديث عن الجنين الذي مازلت تحملينه .. اني ارغب ان يكون انثى .. ولابد ان يكون انثى .. وانا اطلب منك ان تسميه "بيتسي تروتوود كوبرفيلد" واعدك بان اكون صديقه لها.. وعلى فكره , هل تعرفين شيئا عن الطبخ وامساك الحسابات والاشراف على اداره المنزل..؟
فقالت امي :
لا اعرف كثيرا عن ذلك .. ولكني ارغب في تعلم هذه الاشياء
ثم شرعت امي في البكاء مره اخرى ... فقالت عمتي :
_ كفي عن البكاء حتى لا تمرضي وحتى لا تتاثر بمرضك الطفله اللتي ستلدينها .
وعندما احضرت الخادمه بيجوتي الشاي ... لاحظت ان امي متعبه, فذهبت على الفور لاحضار الطبيب. وبمجرد وصول الطبيب وكان اسمه مستر شيليب , صعد على الفور الى غرفه امي
ومرت عدة ساعات الى ان ظهر الطبيب مره اخرى نازلا على السلم, فاسرعت اليه عمتي وسالته في لهفه .
- يادكتور .. كيف حالها ؟؟
فقال الطبيب:
_ ميسز كوبر فيلد بحاله جيده ..
_ ولكن اسال عن حال المولوده ...
وعندئذ قال الطبيب :
اه .... لقد ولدت ذكرا !
ولم تنطق عمتي بكلمه واحده . ولكنها هبت واقفه واسرعت بالخروج من البيت ... ولم تعد اليه بعد ذلك ابدا .... وهذا كان مولدي ... انا دافيد كوبر فيلد
وفاته
توفى تشارلز ديكنز وهو لم يتعد الثامنة والخمسين من عمره، وكان الشيء الذي يميز الفترة الاخيرة من حياته "1852-1870" هو تركيزه على الرواية الاجتماعية وتجديده في عدة مجالات ففي عام 1854 أصدر رواية بعنوان "في المصانع" وأما روايته "دوريث الصغيرة" فتدين بعض مظاهر الظلم والقهر في المجتمع الإنجليزي الرأسمالي الصاعد آنذاك إنها تدين المضاربات المصرفية التي تؤدي إلى الربح السريع دون بذل أي جهد يذكر كما تدين سجن الناس بسبب الديون المتراكمة عليهم والتي يعجزون عن دفعها.
وعند وفاته عام 1870 بكته انجلترا كلها ومشت وراء جنازته بالملايين ولم يحظ أي كاتب بهذا التشريف الرسمي والشعبي ..وربما كان الروائي الاكثر شعبية في كل تاريخ العالم! وفي وقته كان مشهوراً أكثر من أي شخص آخر بل ويرى البعض أن شهرته كانت تعادل شهرة الملكة فيكتوريا ذاتها!
[b]